هكذا ماتت أختي ..
إنها حادثة يندى لها الجبين ، وحادثةً ليست من نسج الخيال وما كانت حديثاً يفترى .. لقد حزنت والله لتلك المأساة التي سوف أنقالها لكم كما وقعت بل وكما سمعتها من صاحبتها التي قد عاشت فصولها وتجرعت مرارتها ...
اتصلت بي بصوتٍ باكٍ تقطعه الزفرات وظللت قترة طويلة استنطقها فلا أفهم ما تقول حتى هدئت وبدئت تردد .. أسألك بالله أن تستمع لي وتتصبر علي ولو لحظات ..
لقد حدث في بيتنا ما لم يكن في الحسبان فأعطني من وقتك ولو لحظات لعلك تدلني على الصواب وتسعفني بالجواب , فو الله ثم والله كل شيء كنت أتوقعه إلا هذا الشيء أن يسقط بيتنا وينهار ..
والسبب من والدي أم والدتي أم هي أختي بل ربما ستقول لي نحن جميعاً نحن الذين تسببوا في هذه المأساة أسرتي التي كانت مثالاً للأسرة المحافظة وقد تربينا على الأخلاق الفاضلة ولكن للأسف .. أقولها بكل أسى : أعاتب من ؟ هل أعاتب أمي على تفريطها وتساهلها ؟ أم أخاطب أبي على ثقته و إهماله ؟؟
ومع من ؟ مع ابنته أختي هند هي التي كانت أصغرنا سناً حتى بعد أن وصلت إلى سن المراهقة لا تزال هي المدللة لديهم بل هي التي كانت تعامل بمعاملة خاصة فكم تساهلا معها وفرطا في متابعتها ومراقبتها حتى أصبحت لا تبالي في كل أمورها ..
فو الله كنت أخاف من تساهلهم معها فأصبحت تسهر الليل في البيت للساعات متأخرة حتى في أوقات المدارس بل استطاعت ببكائها وشكواها المستمرة أن تقنعهما بإدخالها مدرسة خاصة فكم تساهلت أمي معها واستجابت لرغباتها بل حتى لباسها وللأسف كان يسمح لها بارتداء ما تريد وكم كنا نغضب أن وأخواتي ونعترض كثيراً ولكن تعاطف والدتي معها حال بيننا وبين أن تستمع لنا ..
حتى بدأ الاختلاف واضحاً بيننا ففي الوقت الذي نستمتع فيه بسماع أشرطة المحاضرات .. كانت هي الوحيدة التي لا تستطيع المذاكرة إلا مع سماع الغناء .. بل حتى لا تنام إلا مع سماع الغناء والموسيقى حتى بدأ أثر ذلك على لباسها وسلوكها كم حاولتُ أن أنصحها وأن أوجهها ولكنني يئست منها لقد أتعبتني كثيراً فقد كانت دائماً تصد عني وتعتبرني معقدة كما تقول دائماً .
بل ولا تريد أن تسمع مني أي نصيحة أو توجيه والذي كان يضايقني هو رضا والدتي عنها وعدم معارضتها لها بل حتى والدي كان دائماً يعتبرها صغيرة وبريئة ؟
فللأسف استطاعت هند أن تستحوذ على قلبيهما وتتحرك تبعاً لعاطفتهما وغفلتهما حتى جاء ذلك اليوم المشئوم عندما طلبت هند من أمي أن توافق لها بالذهاب إلى مدينة الألعاب بصحبة صديقاتها , وأخذت تمهد لخروجها وتلح عدة أيام حتى وافقت لها أمي وحين علمتُ بذلك عارضت كثيراً ..
توجهت لوالدتي فقلت لها كيف تسمحين لها يا أمي أن تذهب مع فتيات لا تعرفينهن و لا تعرفين حتى أخلاقهن أرجوك لا تتهاوني بذلك يا أمي .. هند لا تزال في المرحلة الثانوية كيف تذهب لوحدها ..
والله يا أمي لقد رأيت صديقاتها حين ذهبت لمدرستها والله يا أمي لو رأيتهن لما رضيت بمنظرهن .. بل حتى العباءة لا يعترفن بها .. رأيتهن والله يخرجن شبه كاشفات مع سائقهن فكيف تتركينها تخرج معهن ؟
حتى صرخت في وجهي وقالت : ألا تسمعين من المسئولة عنها أنا أم أنتِ دعيها تتسلى مع صديقاتها ساعتين ثم تعود !
فاستسلمت وسكت على مضض وقلبي يشتعل من الألم لأني والله بدأت أشعر بأن أختي ستضيع من بين يدي إن استمر هذا التهاون من أمي والغفلة من والدي فخرجت وهي تنظر إلي بنظرة وكأنها تقول ذهبت رغماً عنكِ ..
وقد حشرت نفسها في عبائتها الضيقة وترتدي تنورتها الجنز وتضرب الأرض بكعبها والمكياج يملئ وجهها خرجت وهي والله لا تعلم ما يخبئ لها القدر ؟
نظرت إليها وأنا أحدث نفسي يا حسرتاه والله لم تخلقي لهذا الضياع ولم تخلقي لهذه الغفلة .. وعند المساء ونحن جلوس نتناول العشاء نظرت والدتي للساعة وهي تقول الساعة التاسعة والنصف وهند لم تعد .. فالتفت والدي إلينا وهو يقول لم تعد إلى الآن ..
متى قالت أنها ستعود فقالت أمي إنها قالت ستعود قبل العشاء فيرد عليها والدي بغفلته اتركيها فربما استمتعت وتريد العب أكثر
كنت أنظر إليهما وأنا صامته فقررت أن لا أسأل عنها صمت والدي قليلاً وهو ينظر إلي وقال مع من قالت أنها ستعود فترد أمي أنها قالت ستعود مع صديقاتها لديهم سائق ..
فصرخ والدي في وجه أمي وهو يقول سائق لماذا لم تقولي لي من قبل كيف ترضين أن تعود مع سائق لوحدها وهي في هذا السن ثم صعد إلى غرفته وهو غاضب حتى بداء الوقت يمضي بسرعة ونحن جلوسٌ في الصالة والساعة تصل إلى الحادية عشرا وهي لم تعد ..
حتى بدأ القلق يتسرب إلى بيتنا بشكل مخيف .. خرج والدي وهو يردد ويصرخ ألم تعد إلى الآن .. قلت لكِ كيف تتركينها تذهب دون أن تأخذي منها جوال صديقتها .. فردت والدتي عليه وبدأ التلاوم فحضروا إخوتي كلهم ثم ذهبوا إلى مدينة الألعاب ووجدوها قد أغلقت ..
فجن والدي وبدأ يرتفع معه السكر وسقط مغشياً عليه فنقل إلى المستشفى .. والدتي جالسة ويديها على رأسها ولم تستطع الوقوف ولم تتوقف عن البكاء بحثنا بين معارفها ومعلماتها ولكن للأسف ..
حتى فزع أخي لإبلاغ الشرطة عند الساعة الواحدة ليلاً لكننا للأسف لم نملك خيطاً واحداً يدلنا عليها أو اسم صديقتها أو جوالها فكيف نعرف أين تكون وماذا ستفعل الشرطة لنا !
مكثنا كلنا في البيت والدتي منهارة وتبكي وأخي يرفع يديه إلى السماء ويدعوا الله ولا نعرف ماذا تفعل ؟ هند مختفية وأبي في المستشفى والوقت يمر بسرعة والخوف والقلق يلازمنا وفي تلك الساعة المتأخرة إذا برقم غريب يتصل على أخي عبد الله وحين رد عليه كانت الطامة !
التي لم نتوقعها كان أحد رجال الهيئة يتصل على أخي ليخبره أن أختي وجدت مع شاب في سيارة لوحدهما ليلة أمس وأنها انهارت وأغمي عليها من شدة الصدمة ولم تفق إلا قبل قليل ففوجئت وأنا أرى أخي يسقط على الأرض ملتفاً بشماغه فأخذ يبكي فصرخت أمي ماذا تكلم وجدوها ميتة أهي في المستشفى حادث تكلم ؟
فأجاب بألم يا ليتها ماتت يا أمي ثم ذهب أخي لكي يستلمها من الهيئة فلحقت به أمي وهي تقول له أسألك بالله ألا تفعل شيئا وألا تقتلها وهي تبكي حتى سقطت على الأرض ..
جلسنا ننتظر وما هي إلا لحظات حتى وصل أخي وفتح الباب وإذا بأختي تدخل علينا وهي مطأطئة رأسها ووجهها شاحب لا يٌرى .. تغطيه دموعها دخلت ترتجف مسرعة فرمت نفسها عند قدمي أمي .. وهي تردد والله ما عملت شيء ولم أكن أعلم أنني سأتأخر ..
فصدت عنها أمي وصرخت عليها وقالت أهكذا ربيناكِ أهكذا تستغلين ثقتي بك أذهبي لا أريد أن أراك .. فأنت لا تعلمين ما حجم مصيبتنا فأبوك يحتضر في المستشفى بسببك يا ليتك متِّ .. ولم نرى فيك هذا اليوم ..
يا من أضعتي سمعتنا يا من جلبت لنا الفضيحة والعار .. انصرفي عني وأختي لم ينقطع أنينها وبكائها فأسرعت إلى غرفتها حتى بقينا نتأمل في بعض .. يا لها من مصيبة ومأساة ونحن لا ندري من كان يتوقع هذه المأساة .. فكم هدمت هذه الغفلة من بيوت تمر الأيام وكل من البيت يتصدد عنها لا تريد أن نكلمها أو نرى وجهها ..
أخذتها أمي وذهبت بها لتعمل لها تحليل حمل فأخذت تقسم أنها لم تعمل شيء وأنها لم يمسها لكن أمي كانت تريد إذلالها فقط .. ومرت الأيام ولم يزل والدي في المستشفى وكنت أزوره وأهون عليه ولم نخبره بما حصل لها بل قلنا بأن حادث حصل لها ولكنه كان يشعر بكل شيء ..
وحين استعاد صحته وخرج من المستشفى تأكد من ذلك .. حين رأى معاملتنا لها وكيف أصبحت شبه منطوية في غرفتها فلم يعد يحدثها ولا ينظر إليها حتى رأيت أختي تذهب إلى أبي في غرفته وتقبل يده ورأسه وتقول له أرجوك يا أبي إنه الشيطان لم أكن أعلم بذلك فلا تحرمني رضاك يا أبي ..
لكن والدي لم ينظر إليها ولم يكلمها ودموعه لم تقف .. كيف أستغرب دموعه وأنا أرى أشياء كبيرة فيه قد تحطمت .. كبريائه .. ورجولته .. وفخره بأبنائه .. والدي لم يعد يخرج ولم يجتمع مع الآخرين .. أصبح جليساً مع نفسه ..
يا لله ما الذي جرى ! حزناٌ كبيرٌ هيمن على أرجاء البيت ضاعت الابتسامة وضاع نبض الحياة في بيتنا .. حتى أخواتي المتزوجات لم يعدن يزرننا كثيراً وكأنهن يخشين من مواجهة الحزن والكآبة في هذا البيت .. جلست في غرفتي التفت يمنة ويسره توضأت وبدأت أصلي ..
ثم نظرت إلى السماء .. اللهم اكشف ما بنا من كرب .. وأرجع البسمة إلينا .. اللهم أصلح أختي وأصلح ما بينها وبين والدي ..
بدأت أفكر وأتصل بالمشايخ وأستشيرهم حتى أوصوني بأن أكون بقربها .. فأحسست أن علي أفعل شيئاً أن أرفع هذا الحزن المقيت الذي هيمن على قلوبنا .. دخلت غرفتها بهدوء فوجدتها صامته على سريرها تستمع للقرآن !!
فقلت في نفسي يا سبحان الله .. الآن تستمعين للقرآن وقد كنت لا تنامين إلا على صوت الغناء .. يا لله ما أجهلك أيها الإنسان ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ) .
الآن تستمعين للقرآن بعد استمتاعك بالغناء وقد كان سبب تهاونك بالحرام .. جلست بقربها ثم نظرت إليها وأنا أقول لها أخيتي أتسمحين لي أن أسألك ؟ سكتت قليلاً فقالت لي :
والله يا أخيتي لقد خدعني كنت أعتقد أنه متعاطفاً معي ويزعم أنه سيتزوجني ؟ والله يا أخيتي لقد تعاطفت مع كلماته وعباراته .. ولكن حينما بدأ رجال الهيئة بملاحقة السيارة فوجئت به وهو يقف بي كي أنزل ..
بل أخذ يدفعني بقوة ولم أشعر إلا وأنا أقف في منتصف الشارع لوحدي فهرب وتركني ولم أدري حينها أين أنا .. فقلت لها اصدقيني يا أخيتي هل سبق وأن خرجت معه من قبل ؟
فقالت مرةً واحدة خرجت من المدرسة وتناولنا الغداء ثم أعادني !
فنظرت إليها وقلت لها إلى هذه الدرجة تخدعين فبدأت دموعها تنهمر وهي تردد أكرهه وأكره نفسي .. فبدأت تبكي وتأن بحرقة وحزنت من أجلها اقتربت منها شعرت بعطف شديد عليها فأخذت أبكي معها .. وأنا أردد لا تكرهي نفسك يا أخيتي فإن باب التوبة مفتوح ..
والله سبحانه يفرح بتوبة عبده فاهتزت بين يدي وأخذت تبكي بكاءً مراً وأخذت تردد يا أخيتي أي بابٍ مفتوح وأنتم قد أغلقتم أمامي كل الأبواب لقد كرهتموني بل جميعكم تريدون الخلاص مني لا تريدونني حتى لو تبت .. فقلت استغفري الله واتق الله إنه كان غفارا ..
الله يفرح إن تاب المسيء ألا قومي إلى الله واستغفريه وابتدري
لا تأمني العمر والأيام راكضةً وقد يجيء بما لم تحذر القــدر
في الدهر زجرٌ وفي الأحداث مو عظةً فما لقلبي وقلبك ليس ينزجر
كم غر إبليس والأهواء من نفر وأعظم الذنب إن الذنب يحــتقر
فيا أخيتي قومي لتصلحي ما بينك وبين الله ليصلح الله ما بينك وبين الناس .. ارتجفت وعلا صوتها وقالت لي لماذا يا أخيتي إذا كان الله سيغفر لي فلماذا أنتم تعاملوني هكذا ؟
نعم أخطأت .. ولكن لماذا لا تقفون معي .. من لي غيركم إذا تخليتم عني .. أمي تتمنى موتي .. وأبي أصبح لا يريد رؤيتي .. أنتِ وإخواني جميعكم تنظرون إلي وكأني لست منكم .. أليس هذا من الظلم .. فرمت نفسها على الأرض وهي تبكي ولم أتحمل بكاؤها ..
خرجت من غرفتها فوجدت والدتي جالسةُ في زاوية الممر تأن وتبكي وقد سمعت ما دار بيننا فقلت في نفسي يا لله .. لقد تحطم هذا البيت كم كنت أحذرك يا أمي ولكن للأسف الآن تبكي يا أمي ذهبت إلى غرفتي وما كنت أعلم ماذا يخبئ لنا القدر ..
وفي فجر اليوم التالي أفزعني الصراخ خرجت من غرفتي ولم يكن في ذهني إلا الحزن على والدي وما إن وصلت إلا وأمي قد ارتمت على أختي هند وهي تصرخ وأخي قد أمسك بوالدي خوفاً عليه ...
ما الذي يحدث .. ماذا بكم فإذا بزوجة أخي تدفعني إلى خارج الغرفة .. فقلت ما الذي أصاب هند دعوني أدخل عليها .. أريد أن أراها .. أسعفوها أنقذوها .. ففاجأني أخي وهو يمسك بيدي ويردد : هوِّني عليك لقد قتلت نفسها ؟
تناولت من إبر والدي التي يأخذها لمرض السكر فاستخدمت أكثر من خمس إبر فلم تتحمل ماتت .. وأسأل الله أن لا نكون نحن سب ضياعها .. صرخت في وجوههم من المسئول عن موتها ..
من الذي يتحمل وزرها .. لقد قسوتم عليها .. أين أنتم عن نبينا عليه الصلاة والسلام عندما أتته الأعرابية قد زّنّت وأخيتي لم تزني كما قالت .. أين أنتم عن نبينا حين قال عنها والله لقد تابت توبة لو تابها أهل المدينة لقُبل منهم ..
فما أرحمك يا رسول الله وما أقسى قلوبنا .. حتى بدأت تردد إني أسألك بالله يا شيخ هل أنا الذي قتلتها أم أمي أم أبي من المتسبب في هذه المأساة ؟ فقلت حسبنا الله ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون ..
من شريط هكذا ماتت .. للشيخ / مشعل العتيبي
فيصل العنزي