إقامة الحجة والبرهان على جواز التنكيس في القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد
فإن مما يثير العجب حقا أن تجد كثيرا من الناس يسارعون إلى عيب ما لا علم لهم به سوى قيل وقال دون بينة أو حجة أو برهان,كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم : (ما اسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به).
ومن هذه الأمور تنكيس سور القرآن في القراءة, أي قراءة سورة قبل أخرى خلاف ترتيبها في المصحف العثماني في نفس الركعة. وكنت أصبر غير آبه بإنكارهم لجهلهم, ثم وجدت الأمر يشتد , فبادرت إلى تأسيس أدلة المسألة , وبيان جوازها مستعينا بالله تعالى .
روى مسلم في صحيحه (772) عن حذيفة بن اليمان قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة , فقلت: يركع عند المائة,, ثم مضى,فقلت: يصلي بها في ركعتين, فمضى,فقلت: يركع بها, ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها ...)
وفي الحديث دلالة بينة واضحة على أنه يجوز قراءة سور القرآن غير مرتبة كما هي في المصحف العثماني المتداول بين أيدينا. وموضع الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ النساء قبل آل عمران بدليل استعمال حذيفة لحرف (ثم) مع أن سورة آل عمران قبل سورة النساء في الترتيب العثماني !
ـ قال الشيخ الألباني في صفة الصلاة (الكتاب الأصل /ص500و501): هكذا هي الرواية , بتقديم (النساء) على (آل عمران) خلافا للترتيب العثماني عند جميع من أخرج الحديث , إلا رواية لأحمد , فذكر (آل عمران) ثم (النساء) , وهي من رواية أبي معاوية عن الأعمش , والرواية الأولى من رواية عبد الله ابن نمير وجرير, كلاهما , على أن مسلما قرن بهما رواية أبي معاوية ـ وكذا البيهقي ـ ولم يذكر خلافا بينهما في هذه الكلمة والله أعلم.
وأيما كان, فالرواية الأولى أصح, لاتفاق ثقتين عليها عن الأعمش, ولمجيئها كذلك من وجه آخر عند أحمد كما سبق
وقد وهم الحافظ في الفتح (3/15) وتبعه الشيخ القاري وغيره في شرح الشمائل (2/95) حيث عزوا الحديث باللفظ الثاني إلى صحيح مسلم وليس هو فيه. بل ولا عند أحد من مخرجيه, حاشا أحمد في رواية. ـ كما ذكرنا ـ وقد رجح هذه الرواية الشيخ القاري , فقال:
إنها الصواب , على ما هو المعروف المستقر من أحواله صلى الله عليه وسلم, وما استقر عند الصحابة من الإجماع على ترتيب السور, على خلاف في أنه توقيفي, بخلاف ترتيب الآي فإنه قطعي)
قلت: ولا يخفى على العاقل اللبيب أن ما ذكره لا تنهض حجته على ترجيح هذه الرواية , لأنه جائز أن يخالف صلى الله عليه وسلم المعهود من ترتيبه لسبب ما ـ كبيان الجواز مثلا ـ فإذا كان هذا جائزا, فلا بد حينئذ من المصير إلى ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى إلى ما تقتضيه قواعد علم الحديث.
وقد ذكرنا أنها الرواية الأولى,فعليها العمدة , دون الأخرى) اهـ كلام الشيخ رحمه الله تعالى
قال أبو عبد الله : وممن أنكر هذا كثير من المتفقهة المنسوبين إلى مذهب مالك رضي الله عنه في بلادنا, وهو أمر طريف . فإن كبار المالكية على الجواز . قال القاضي عياض المالكي رحمه الله تعالى في إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/137/تحقيق يحيى إسماعيل) :
(وتقديمه هنا النساء على آل عمران حجة لمن يقول : إن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف, لم يكن ذلك من تحديد النبي ـ عليه السلام ـ وإنما وكله إلى أمته بعده وهو قول جمهور العلماء , وهو قول مالك واختيار القاضي أبي بكر الباقلاني, وأصح القولين عنده, مع احتمالها.قال: والذي نقوله: إن تأليف السور ليس بواجب في الكتابة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التلقين والتعليم, وإنه لم يكن من الرسول في ذلك نص واحد لا يحل تجاوزه, فلذلك اختلفت تأليفات المصاحف قبل مصحف عثمان, واستجاز النبي صلى الله عليه وسلم والأمة بعده في سائر الأعصار ترك الترتيب للسور في الصلاة والدرس والتلقين والتعليم, وعلى قول من يقول من أهل العلم : إن ذلك توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعلى ما حده ورسمه لهم حسب ما استقر في مصحف عثمان , وأن موجب اختلاف المصاحف قيل في الترتيب إنما كان قبل التوقيف , وعلى ما جاء هنا كانت هاتان السورتان في مصحف أبي...)
وفهم من هذا أنه على فرض كون ترتيب المصحف توقيفيا فإنه لا يلزم منه وجوب ترتيبها في القراءة في الصلاة.
وقال الإمام النووي الشافعي رحمه الله في التبيان في آداب حملة القرآن (ص48) : (لو خالف الموالاة فقرأ سورة لا تلي الأولى أو خالف الترتيب فقرأ سورة قبلها جاز.)
وقال ابن بطال المالكي في شرح البخاري : (روى يونس عن ابن وهب قال: سمعت مالكًا يقول: إنما أُلف القرآن على ما كانوا يسمعونه من قراءة رسول الله، ومن قال هذا القول لا يقول: إن تلاوة القرآن في الصلاة والدرس يجب أن يكون مرتبًا على حسب الترتيب الموقف عليه في المصحف؛ بل إنما يجب تأليف سوره في الرسم والكتابة خاصة ولا نعلم أن أحدًا منهم قال: إن ترتيب ذلك واجب في الصلاة، وفى قراءة القرآن ودرسه وإنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة، ولا الحج بعد الكهف، ألا ترى قول عائشة للذي سألها أن تريه مصحفها ليكتب مصحفًا على تأليفه: لا يضرك أيه قرأت قبل؟!)
وأثر عائشة الذي ذكره ابن بطال رواه البخاري (4707) عن يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ جاءها عراقي فقال : يا أم المؤمنين أريني مصحفك قالت: لم ؟ قال لعلي أؤلف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف قالت وما يضرك أيه قرأت قبل...) وهو شاهد واضح على ما ذكرت من جواز (تنكيس) سور القرآن في التلاوة.
ومما يدل على هذا أيضا ما رواه البخاري (741) عن أنس رضي الله عنه ـ وبوب له المجد ابن تيمية الحنبلي في المنتقى ولحديث حذيفة (باب قراءة سورتين في كل ركعة وقراءة بعض سورة وتنكيس السور في ترتيبها وجواز تكريرها) ـ قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح قل هو الله أحد حتى يخلو منها ثم يقرأ سورة أخرى معها وكان يصنع ذلك في كل ركعة فكلمه أصحابه فقالوا إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى فإما تقرأ بها وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى فقال ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن كرهتم تركتكم أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر فقال يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما يحملك عل لزوم هذه السورة في كل ركعة فقال إني أحبها فقال حبك إياها أدخلك الجنة)
ووجه الدلالة فيه إقراره صلى الله عليه وسلم الإمام على تقديم سورة الإخلاص على غيرها في الركعة الواحدة.
واستدل الشيخ الألباني أيضا بما رواه ابن خزيمة (538) عن الأمش عن شقيق عن ابن مسعود قال : (إني أعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهن سورتين في ركعة ثم أخذ بيد علقمة فدخل ثم خرج فعدهن علينا قال الأعمش وهي عشرون سورة على تأليف عبد الله أولهن الرحمن وآخرتهن الدخان الرحمن والنجم والذاريات والطور هذه النظائر اقتربت والحاقة والواقعة ون والنازعات وسأل سائل والمدثر والمزمل وويل للمطففين وعبس ولا أقسم وهل أتى والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت والدخان) وقد ذكرها الشيخ الألباني في صفة الصلاة (ص402 إلى 404) وأصلها في البخاري (4710)ومسلم(822) وقد فصل الشيخ رحمه الله تعالى تخريج الحديث.فانظره هناك.وهذه النظائر ذكرت مرتبة على ترتيب مصحف ابن مسعود رضي الله عنه .وقد ذكر الشيخ أرقامها ثم قال في الحاشية : (الرقم الأول للسور والرقم الثاني لعدد آياتها وقد كشف لنا هذا الترقيم الأول أنه صلى الله عليه وسلم لم يراع في الجمع بين كثير من هذه النظائر ترتيب المصحف فدل على جواز ذلك ومثله ما سيأتي في القراءة في صلاة الليل. وإن كان الأفضل مراعاة الترتيب) ويقصد بما سيأتي حديث حذيفة
هذا جهد المقل. والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعي